|
|
ربما كان من الضروري للمملكة العربية السعودية الدخول في شراكة استثنائية مع الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، لا سيما في ظل تداعيات الحرب التجارية المستمرة بين واشنطن وبكين، فضلاً عن احتداد التوترات الجيوساسية التي تهدّد الوصول إلى التكنولوجيا الحيوية. مثل هذه الشراكة كفيلة بأن تسمح للسعودية بالاستفادة من خبرة الولايات المتحدة ومن التطوّر التكنولوجي الذي أحرزتْه الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي. كما ستضمن مثل هذه الشراكة للمملكة العربية السعودية فُرصة الوصول إلى أحدث الابتكارات والرقائق واستخدامها. وفي هذا التحليل، نُسلّط الضوء على ما يُسمّى بلائحة تنظيم الذكاء الاصطناعي الأمريكية، والتي تضع قيودا شديدة على تصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأمريكية إلى دول أخرى. هذه القيود الأمريكية تجعل من الضروري للسعودية أنْ تحرص على أن تكون بين الدول التي تضع من بين أولوياتها الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي الأمريكي. كما سنُلقي الضوء، في هذا التحليل، على تطوير الصين تقنية رقائق 7 نانومتر، وما يمثّله التطوّر الصيني الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي من تهديد قويّ للهيمنة الأمريكية في هذا المضمار. فمثل هذا التطوّر الصيني يشير إلى قدرة بكين على أن تكون خصماً قوياً ومنافساً لواشنطن في مضمار تكنولوجيا أشباه الموصلات، عبر التخطيط الاستراتيجي والتخصيص الجيّد للموارد. وسنختتم تحليلنا بتسليط الضوء على اثنين من العوامل الهامة في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية. العامل الأول، هو التناقض القائم عالميا بين استراتيجية الإنتاج في الوقت المحدد وصناعة أشباه الموصلات؛ أما العامل الثاني، فهو أهمية اختبار التحمّل، وفيه نتعرّض لمَواطن الضَعف المحتملة والسيناريوهات الخاصة بالتخطيط الاستراتيجي وبناء منظومة تكنولوجية عالمية تتّسم بالمرونة. واستهدفت السياسة الأمريكية من وراء تلك اللوائح تقييد صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، وقصْر ذلك على أقرب حلفاء الولايات المتحدة. وتُعدّ هذه الهيمنة التكنولوجية الأمريكية ضرورية من أجل الهيمنة الاقتصادية، والعسكرية والجيوسياسية. ![]() وفي الشكل التالي، يتضح كيف أنّ أسهُم شركة إنفيديا في كاليفورنيا -الرائدة عالميا في التزويد بمنتجات الذكاء الاصطناعي- ارتفعت خلال الأسبوع الماضي بأكثر من 5%، وذلك إثر تقارير تفيد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد يعلن عن تخفيف القيود المفروضة على انتشار الذكاء الاصطناعي، في أثناء زيارته للخليج العربي المنتظرَة خلال الفترة من 13 إلى 16 مايو الجاري. ![]()
🔍 شرح لائحة تنظيم انتشار الذكاء الاصطناعي: لائحة 25-7% في الأسبوع الأخير لإدارة جو بايدن، أصدرت وزارة التجارة الأمريكية لائحة جديدة لمراقبة الصادرات تهدف إلى تنظيم الانتشار العالمي لرقائق ونماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة. وإذا ما قرّر الرئيس الحالي ترامب إلغاء تلك اللائحة أو مراجعتها، فسيتعيّن على إدارته أن تفعل ذلك في غضون 120 يوما من وقت صدورها أو بعد ذلك بوقت قصير (قبل يوم 15 مايو الجاري)، طبقاً للقواعد الأمريكية المعمول بها. وتقسِّم هذه اللائحة الأمريكية دول العالم إلى ثلاث فئات: فئة الدرجة الأولى، وتضم الولايات المتحدة و18 دولة أخرى هي: أستراليا، وبلجيكا، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا، وأيرلندا، وإيطاليا، واليابان، وهولندا، ونيوزيلندا، والنرويج، وكوريا الجنوبية، وإسبانيا، والسويد، وتايوان والمملكة المتحدة. وبشكل عام، تدخل شُحنات الولايات المتحدة من رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى شركات في تلك الدول، دونما قيود، رغم بعض الاستثناءات. (مثلا، الشحنات غير المقيّدة لا يمكن أن تدخل لشركات في فئة دول الدرجة الأولى إذا كانت هذه الشركات هي أفرُع لشركات رئيسية في دول أخرى من خارج تلك الفئة). الفئة الثانية، بحسب تصنيف اللائحة الأمريكية، هي دول الدرجة المتوسطة، وهذه تضم 150 دولة. وتخضع الشحنات الأمريكية من رقائق الحوسبة المتطورة إلى الشركات في تلك الدول لبعض القيود. أمّا الفئة الثالثة والأخيرة فهي دول القاع، وهذه تضم الدول التي تحظُر الولايات المتحدة بيع أسلحة إليها، بالإضافة إلى ماكوا – الخاضعة إدارياً للصين. وتشمل هذه الفئة الأخيرة حوالي 20 دولة بينها الصين، وكوبا، وإيران، وكوريا الشمالية وروسيا. وتؤكد لائحة تنظيم انتشار الذكاء الاصطناعي على حظر تلك الصادرات من الرقائق المتطورة إلى أي من دول الفئة الثالثة. ![]() وبالنسبة لدول الفئة الثانية، أو الدرجة المتوسطة، فإنّ لائحة نشر الذكاء الاصطناعي الأمريكي تُقدّم ما يُسمّى بـ المستخدِم النهائي الذي يتم التحقق منه عالميا، أو الشركات التي تقع مَقرّاتها أو شركاتُها الأُمّ في دول الفئة الأولى (الدرجة الأولى). على أن هذه الشركات التي تقع مقرّاتها في دول الفئة الأولى، لا يمكنها أن تنقل أو تنشُر أكثر من 25% من إجمالي قوّتها الحوسبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي. معنى ذلك أن الحكومة الأمريكية تقيّد بشكل كبير حصول الـ150 دولة في الفئة الثانية على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ورقائق الحوسبة المتطوّرة، ما لم يكن ذلك عبر شركات مقرّها في الولايات المتحدة. كما أن القيد الذي يحدّد نسبة 25% من إجمالي القوة الحوسبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إنما يستهدف تقييد تصدير ونقل الذكاء الاصطناعي الأمريكي المتطور وتكنولوجيا الحوسبة. إضافة إلى ذلك، بموجب هذه اللوائح -حتى مع ميزة المستخدِم النهائي الذي يتم التحقق منه- لا يحق للشركات أن تشحن أكثر من 7% من إجمالي قوتها الحوسبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي إلى أيّ من دول الفئة الثانية (الدرجة المتوسطة). ومن المرجّح أن تكون دول الفئة الثانية التي تحظى بميزة المستخدِم النهائي الذي يتم التحقق منه، هي تلك الدول ذات الأسواق الضخمة (كالهند والبرازيل). لكن الحصول على هذه الميزة لا تعني بالضرورة انتصاراً؛ لأن دول الفئة الثانية ذات الأسواق الضخمة سوف تواجه مشكلة في تأمين احتياجاتها في مضمار الحوسبة في ظلّ هذا السقف الذي تضعه الولايات المتحدة لمبيعاتها من تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة. الشكل التالي يوضّح التفكير الاستراتيجي للمملكة المتحدة والمتمثل في أن 5% فقط من شركاتها الرئيسية في مجال أشباه الموصلات هي تابعة لشركات يقع مقرّها في الصين، وهو ما يعكس نهجاً بريطانياً حذِراً يوازِن بين المصالح الاقتصادية من جهة، واعتبارات الأمن القومي من جهة أخرى. وعبر الحدّ من الشركات المملوكة للصين، تستهدف المملكة المتحدة الحدّ من التعرّض للمخاطر الجيوسياسية المحتملة، فضلاً عن الحدّ من الاعتماد على التكنولوجيا الصينية وسلاسل التوريد الصينية. وفي المقابل، فإن وجود 37% من مقرّات شركات أشباه الموصلات البريطانية في الولايات المتحدة و 28 % في المملكة المتحدة؛ إنما يعكس حِرص الأخيرة على المعايير التكنولوجية، والسياسات الأمنية والتحالفات الأمريكية. ![]() هذه النِسب تعكس جهداً بريطانياً متعمداً لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها كشريك محوريّ في حماية القدرات التكنولوجية المتطورة، وتأمين الوصول إلى التكنولوجيا المتطورة الخاصة بأشباه الموصلات. مع الحدّ في الوقت ذاته من نقاط الضعف المرتبطة بالاستثمار الصيني في هذا القطاع.
🇨🇳 تكنولوجيا رقائق 7 نانومتر الصينية إنّ التطورات الأخيرة التي أحرزتْها الصين في مضمار تكنولوجيا رقائق 7 نانومتر، والسيطرة على مواد أرضية نادرة، تمثّل تحدياً كبيراً للهيمنة الأمريكية على مجال صناعة أشباه الموصلات. فهذه التطورات الأخيرة، تجعل الصين قادرة على تطوير أشباه موصّلات عالية الأداء تضاهي أو حتى تنافس التصاميم الأمريكية، كتلك التي أنتجتها شركات أمريكية رائدة. إنّ تكنولوجيا رقائق 7 نانومتر هي التي أعلنت الصين عن تطويرها رسمياً حتى الآن، لكن هناك تقارير غير مؤكدة تفيد بأن الصين تعكف منذ عام 2022 على تطوير رقائق 5 و3 نانومتر. وفي عام 2014، نشرت الصين مبادئ توجيهية لتطوير صناعة الدوائر المتكاملة بهدف تسريع وتيرة دعم صناعة الرقائق الإلكترونية الصينية، واضعةً بذلك الأساس لخطة صُنع في الصين 2025. ثم رصدت الصين هدفاً طموحاً هو تحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة 70% من أشباه الموصلات بحلول عام 2025. ولكن يبدو أن الصين قد لا تتمكن من تحقيق هذا الهدف، في ظلّ الحرب التجارية التي تتزايد حِدّتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد استبَقتْ بكين فوز ترامب بالرئاسة، وأعلنت بشكل استراتيجي أنّ خطتها الخاصة بتحقيق أهدافها التصنيعية هي خطة طويلة الأجل وتمتد إلى 15 عاماً بدلاً من 5 أعوام، فيما يعكس تفكيراً طويل المدى وتخطيطاً للطوارئ من جانب الإدارة الصينية. وكما هو معروف في الصين، فإن الصندوق الكبير الأول (2014)، والصندوق الكبيرالثاني (2019) والصندوق الكبير الثالث (2024)، تعتبر بمثابة الأدوات الصينية الأكثر مركزية لتخصيص الأموال لصناعة أشباه الموصلات المحلية. وخصص الصندوق الكبير الثالث، الذي أُعلن عنه في مايو 2024، مبلغاً إضافيا وقدره 47.5 مليار دولار لقطاع صناعة أشباه الموصلات المحلية في الصين، متجاوزاً بذلك قيمة المخصصات الأمريكية للقطاع نفسه -عبر قانون الرقائق والعلوم- والتي تناهز 39 مليار دولار. ![]()
🔦 استراتيجية "الإنتاج في الوقت المحدد" نظام الإنتاج في الوقت المحدد (جيه آي تي) هو نموذج تشغيلي يُعتبر استراتيجية لسلسلة التوريد يتم التركيز فيها على تقليل حجم المخزونات عبر جَدْولة المواد والمكونات لتسليم البضائع في الوقت المحدّد لذلك بالضبط. هذا النموذج يقلّل من تكلفة التخزين بينما يزيد من الكفاءة؛ عبر الاعتماد على التوقّع الدقيق للطلب والتنسيق المُحكم بين الموّرّين والمُصنّعين. لكنّ الفترات الزمنية الممتدة في تصنيع أشباه الموصلات تتعارض مع فلسفة الإنتاج في الوقت المحدد. فصناعة أشباه الموصلات تنطوي على دورات تطوير وتصنيع تمتدّ في العادة لعدة أشهر، نظراً لتعقُّد خطوات التصنيع (وهي عمليات متعددة المراحل من أجل تحويل المواد الخام إلى أشباه الموصّلات في شكلها النهائي)، هذا فضلا عن استثمارات البحث والتطوير، ومتطلبات المعدّات المتخصصة. في ظل هذه الفترات الممتدة تتعذّر عملية التوقُّع بدِقّة للطلب، وكذلك تخطيط عمليات التسليم في الوقت المطلوب بالضبط - وهو جوهر نظام الإنتاج في الوقت المحدد أو (جيه آي تي). وفي أثناء فترة نقص الرقائق التي بدأت في أواخر 2020، واجهتْ شركات تصنيع السيارات التي تطبّق نظام الإنتاج في الوقت المحدد اضطرابات شديدة. ![]()
على سبيل المثال، أفادت شركة فولكسفاجن بأن إنتاجها تأثّر بشدة؛ لتتكبّد خسائر قُدّرت بنحو 2.2 مليار يورو من الأرباح التشغيلية لعام 2021، بسبب اضطرابات سلاسل التوريد. ![]()
أيضاً، شركة فورد، كشفت أنها تكبّدت خسائر تناهز قيمتها 2 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2021، بسبب نقص قطع الغيار في أعقاب الإغلاقات بسبب جائحة كوفيد-19. وشمل النقص كذلك أشباه الموصلات، مما أدى إلى تأخُّر في إنتاج السيارات وبالتالي في مبيعاتها. في المقابل، اعتمدت بعض الشركات على مخزونات استراتيجية خلال فترة النقص في المخزون، مما أدى إلى تخفيف المخاطر. ![]()
مثال ذلك، شركة سامسونج؛ فقد زادت من مخزونها من بعض الرقائق بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30% في عام 2021، مما أسهم في تخفيف أثر اضطرابات سلاسل التوريد. وقد انعكس ذلك على زيادة إيرادات الشركة بنسبة ناهزت 10% في الربع الثاني من 2021، مقارنة بالربع الأول من العام نفسه. وقد أدّت الفترات الزمنية الممتدة إبّان أزمة كوفيد-19 إلى ارتفاع كبير في أسعار الرقائق. على سبيل المثال، أسعار رقائق ذاكرة تخزين "ناند" ارتفعت بنسبة تتراوح بين 200 إلى 300% ما بين عام 2020 ومطلع عام 2022، مما سمح للمُصنّعين الذين لديهم فائض في المخزونات بتحقيق أرباح كبيرة، تراوحتْ نسبُتها أحيانا من 15 إلى 20 نقطة مئوية. ![]()
اختبار قدرة تحمُّل سلاسل التوريد تسعى المملكة العربية السعودية إلى مشاركة فاعِلة بدرجة أكبر في المنظومة التكنولوجية العالمية. وفي ضوء ذلك، يُعدّ ضمان مرونة سلاسل التوريد الحيوية -كأشباه الموصلات- أمراً ضرورياً للتخفيف من المخاطر الناجمة عن التوترات الجيوسياسية وتقلّبات السوق، فضلا عن اضطرابات سلاسل التوريد. وعبر تطبيق ممارسات اختبار قدرة التحمُّل الشاملة، يمكن للمَعنيّين بالصناعة السعودية أن يقفوا على نقاط الضعف داخل سلاسل التوريد الخاصة بهم، وأن يقيّموا تأثير الاضطرابات المحتملة، وأن يضعوا كذلك استراتيجيات لحالات الطوارئ. وينطوي اختبار قدرة التحمُّل على محاكاة لظروف أو صدمات غير اعتيادية، من أجل تقييم أداء سلاسل التوريد تحت ضغط. ودفعت التوترات القائمة بين الولايات المتحدة والصين، الشركات إلى عمل اختبار لقدرة التحمّل لسلاسل التوريد الخاصة بها، وذلك عبر محاكاةٍ لسيناريوهات مُعيّنة – مثل فرْض حظر على التصدير، أو فرض رسوم جمركية. وبالفعل بدأت شركات دولية عديدة في نقل بعض عمليات التصنيع إلى خارج الصين، أو في زيادة مخزوناتها في مناطق مختلفة، على سبيل التحوّط ضد القيود التجارية المحتمَلة، وبالتالي تعزيز مستوى المرونة. وفي عام 2021، أدّى جُنوح سفينة إيفرغرين في قناة السويس إلى حالة من الاحتقان الملاحي، ما أظهر كيف يمكن لحادث واحد أن يعطّل حركة الشَحن العالمية. وفي عام 2011، كان لزلزال وتسونامي توهوكو أثرٌ عميق في سلاسل توريد الإلكترونيات والسيارات، بسبب عوامل عديدة مرتبطة ببعضها البعض. فقد أضرّت هذه الكارثة الطبيعية بمنشآت تصنيعية، ما أدى بدورِه إلى توقُّف الإنتاج بشكل فوريّ. |
|
|
|
|
|
|
Argaam.com حقوق النشر والتأليف © 2025، أرقام الاستثمارية , جميع الحقوق محفوظة |