|
|
تأثر الوضع التجاري العالمي في الأسابيع الأخيرة بشكل حاد، بفرض التعريفات الجمركية الجديدة، خاصة تلك التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الواردات الصينية، والتي بلغت معدلات هائلة، تصل إلى 145%. وبينما تبحث الصين عن فرص جديدة في الأسواق الدولية، فإن استراتيجيات التسعير الخاصة بها، وما يتعلق بها من تبعات، يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات محتملة في الأسواق، وخاصة في الاقتصادات النامية، حيث تكافح الصناعات المحلية من أجل تحقيق القدرة على المنافسة. ويشكل شبح الإغراق تحديات كبيرة للصناعات في جميع أنحاء العالم، مما يدفع الدول إلى النظر في أن تفرض على الأقل رسوماً لمكافحة الإغراق، بدلاً من الرسوم الجمركية. وفي حين تهدف مثل هذه التدابير إلى حماية أسواق المنتجات المحلية من المنافسة الأجنبية، فإنها تخلق بطبيعتها معضلة أخرى، تعرف باسم معضلة السجين، كما سنوضح في تحليلنا في هذا العدد من أرقام ويك اند. بالإضافة إلى ذلك، سنشرح كيف يمكن أن تؤدي تدابير مكافحة الإغراق هذه إلى تفاقم الفجوة الإنتاجية بين الشركات المحلية ونظيراتها الصينية. 🔦 فهم هوامش الإغراق الصيني عندما نتعرض لتحليل هوامش الإغراق الصيني، فهي تمثل الفروق بين القيمة العادية للمنتج داخل الصين، وبين سعر تصديره. ولنفترض أن متوسط سعر بيع الصلب في الصين هو 500 دولار للطن الواحد، بينما سعر التصدير هو السعر الذي يباع به هذا المنتج في السوق الأجنبية. فإذا كانت الشركة الصينية تبيع هذا المنتج للعملاء في الولايات المتحدة بسعر 400 دولار للطن الواحد، فهذا هو سعر التصدير. ولإيجاد هامش الإغراق، نقوم بحساب الفرق بين القيمة العادية للمنتج، وسعر تصديره: هامش الإغراق = 500 دولار (القيمة العادية) - 400 دولار (سعر التصدير) هامش الإغراق = 100 دولار للطن الواحد. وهذا يعني أن الصلب الصيني يُباع في الولايات المتحدة بسعر أقل بمقدار 100 دولار مقارنة بسعر بيعه في الصين. ومن وجهة نظر صناعة الصلب الأمريكية، قد يُنظر إلى هذه الممارسة على أنها منافسة غير عادلة، لأنها تسمح للشركة الصينية بخفض الأسعار المحلية. وبالتالي، فإذا قررت وزارة التجارة الأمريكية أن هذه الممارسة تمثل عملية إغراق، فإنها قد تفرض رسوم مكافحة الإغراق على الصلب الصيني المستورد. وهذا من شأنه أن يرفع السعر الفعلي للصلب في الولايات المتحدة، لتقليل الميزة التنافسية التي يقدمها سعر التصدير المنخفض لهذا المنتج الصيني.
❓❓ كيف تحدد الولايات المتحدة ممارسة الإغراق؟ تستخدم وزارة التجارة الأمريكية اختباراً خاصا يعرف باسم اختبار المسامير (Nails test) – وهو اختبار ارتبط في بداية الأمر بتحقيق رسمي كانت تجريه الولايات المتحدة في قضية إغراق شهيرة تتعلق باستيراد مسامير الصلب من بعض الدول – وذلك لتحديد عمليات الإغراق المستهدفة. وينطوي هذا الاختبار على عمليات حسابية معقدة لتحديد أنماط التسعير المشبوهة، التي قد تشير إلى وجود ما يعرف بالتسعير الافتراسي (أو التسعير العدواني). ويستخدم هذا الاختبار أساليب إحصائية لتحديد هذه الأنماط. ويمكننا أن نوضح ذلك بمثال افتراضي كما يلي: تخيل أن شركة صينية تبيع الرقائق الإلكترونية بأسعار مختلفة لأربعة عملاء أمريكيين على مدار فترة زمنية محددة، كما يلي: ● العميل (أ): 300 دولار ● العميل (ب): 400 دولار ● العميل (ج): 250 دولار ● العميل (د): 500 دولار وبالتالي، يمكن حساب متوسط سعر جميع المبيعات (المعروف أيضا بمتوسط السعر المرجح) التي تمت خلال هذه الفترة، كالآتي: ● متوسط السعر = (300 + 400 + 250 + 500) / 4 = 362.50 دولار. وتحسب وزارة التجارة الأمريكية الانحراف المعياري لهذه الأسعار لفهم التباين السعري بينها. وفي هذه الحالة، لنفترض أن الانحراف المعياري هو 100 دولار، فإن هذا يشير إلى مدى اختلاف الأسعار عن ذلك المتوسط. تطبيق الاختبار الأمريكي: ● المرحلة الأولى - اختبار الانحراف المعياري: يبحث هذا الاختبار عن المبيعات التي تقل بأكثر من انحراف معياري واحد عن متوسط السعر، والتي يمكن أن تكون كما يلي: السعر الحدي = متوسط السعر - الانحراف المعياري = 362.50-100 = 262.50 دولارا وبما أن العميل (ج) دفع 250 دولارا، فإن سعره أقل من هذا السعر الحدي، مما يشير إلى وجود إغراق مستهدف. ● المرحلة الثانية - تحديد المبيعات المستهدفة: وتتمثل الخطوة التالية في تحديد ما إذا كانت المبيعات إلى العميل (ج) تمثل جزءا كبيرا من إجمالي حجم مبيعات هذه الرقائق الإلكترونية. فإذا كان حجم المبيعات إلى العميل (ج) (ولنفترض أنه بلغ 40% من إجمالي المبيعات) يتجاوز حدا سعريا معينا (وهو غالبا 33%)، فإن وزارة التجارة الأمريكية ستصنف هذه المبيعات باعتبارها إغراقا مستهدفا. وإذا خلصت وزارة التجارة الأمريكية إلى أن الشركة الصينية متورطة في هذا الإغراق المستهدف، بناء على نتائج هذا الاختبار، فيمكنها فرض رسوم مكافحة الإغراق على تلك الرقائق الإلكترونية الصينية المباعة للعملاء الأمريكيين. وفي هذه الحالة، قد يشير سلوك البيع المستهدف هذا – والذي يقدم أسعارا أقل بكثير للعميل (ج) مقارنة بالعملاء الآخرين - إلى وجود تسعير افتراسي يهدف إلى إخراج المنافسين من السوق، أو الاستحواذ على حصة سوقية بطريقة غير عادلة. ![]() 📊 التباين بين الصادرات والواردات وهناك مسألة أخرى مثيرة للقلق، وتتمثل في وجود تباين كبير بين الصادرات الصينية الرسمية إلى بعض الأسواق الأجنبية والواردات المسجلة رسميا في الدول المستوردة لهذه المنتجات الصينية. وهذا يشير إلى أن حجما كبيرا من السلع الصينية قد يدخل السوق الأجنبية من دون تسجيل، أو بشكل غير قانوني، مما يزيد من المنافسة ضد المنتجين المحليين الذين يكافحون للحفاظ على قدرتهم على تحقيق الأرباح في مواجهة هذه الممارسات التسعيرية غير العادلة. كما أن تدفق هذه الواردات منخفضة التكلفة، والتي قد تكون دون المستوى المطلوب أيضا، لا يؤدي إلى تقويض الشركات المحلية فحسب، بل ربما يسهم أيضا في إغلاقها في نهاية المطاف، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة، ويعمق الاضطرابات الاقتصادية داخل المجتمعات المحلية.
وبالطبع، يؤدي غياب الرقابة التنظيمية الفعالة إلى تضخيم هذه التحديات. فعلى سبيل المثال، في حين صدّرت الصين ما قيمته 1.71 مليار دولار أمريكي من الملابس إلى جنوب أفريقيا في عام 2014، بلغت قيمة واردات جنوب أفريقيا المسجلة من هذه السلع الصينية 945 مليون دولار أمريكي فقط. ويشير هذا التباين إلى أن العديد من هذه السلع غير مسجلة، أو أنها سلع غير قانونية كانت تدخل إلى أسواق جنوب أفريقيا. وتتمثل النتيجة الاقتصادية الرئيسية لذلك في تقويض الشركات المحلية في جنوب أفريقيا، حيث أبلغت هذه الشركات عن صعوبات في الحفاظ على هوامش الربح في ظل المنافسة المتزايدة من المنتجات الصينية الأرخص ثمناً. ![]() كما عانى القطاع الزراعي في جنوب أفريقيا أيضاً من آثار الإغراق، ومن الأمثلة على ذلك تأثر صناعة الدجاج المحلية، حيث أبلغت شركات مثل أسترال فودز و سوفرين فودز عن انخفاض حصصها في السوق، بسبب استيراد أجزاء الدجاج المجمدة من الخارج بأسعار أقل. وتضمنت الآثار الاقتصادية الأخرى ما يلي: 1. انخفاض الإيرادات الضريبية للحكومة. 2. اعتماد المزيد من الأفراد على المساعدات الحكومية وبرامج المساعدة الاجتماعية. 3. أدت الاضطرابات الاقتصادية في قطاع الصناعات التحويلية إلى إحجام المستثمرين المحليين والأجانب عن الاستثمار في المؤسسات المحلية. 4. يمكن أن يؤدي إغلاق الشركات المحلية إلى فقدان العمالة الماهرة، والخبرات البشرية. ![]() 🔍 معضلة السجين تلجأ بعض البلدان إلى نوعين من التدابير في محاولة لمنافسة الصين، التي اكتسبت شهرة بوصفها مصنع العالم، ويشمل ذلك: إما فرض رسوم مكافحة الإغراق، أو فرض الرسوم الجمركية. ولكن في كلتا الحالتين، يؤدي ذلك إلى ما يعرف بـ معضلة السجين (أو معضلة السجينين)، كما سنوضح في هذا الجزء الأخير من تحليلنا.
(وتعد معضلة السجين واحدة من أبرز تطبيقات النظرية الاقتصادية التي تعرف باسم "نظرية الألعاب"، والتي توضح كيف يمكن أن يؤدي التعاون أو عدم التعاون مع الآخرين إلى نتائج مرغوبة أو غير مرغوبة). وتختلف رسوم مكافحة الإغراق عن التعريفات الجمركية، فهي رسوم محددة تطبق على المنتجات التي يتقرر بيعها في سوق أجنبية بأقل من قيمتها العادية (وهذه القيمة هي التي عادة ما تمثل سعرها المحلي أو تكلفة إنتاجها). أما التعريفة الجمركية فهي ضريبة تفرضها الحكومة على السلع المستوردة، وهي تزيد من تكلفة المنتجات الأجنبية، مما يجعلها أقل تنافسية مقارنة بالمنتجات المحلية. ويمكن تطبيق التعريفات الجمركية إما في صورة مبلغ ثابت، أو كنسبة مئوية من قيمة السلع المستوردة. وعلى سبيل المثال، فرضت عدة دول آسيوية، مثل الهند وماليزيا وإندونيسيا، عددا كبيرا من رسوم مكافحة الإغراق على المنتجات الصينية خلال الفترة من 2004 إلى 2020، مع التركيز على قطاعات مثل المعادن، والكيماويات، والمنسوجات، وفرضت هذه الرسوم على منتجات مثل الصلب والبلاستيك. وقد طبقت إندونيسيا وماليزيا مثل هذه الرسوم على مجموعة من المنتجات الصينية، وخاصة في الصناعات المعدنية والكيميائية. غير أن فرض رسوم مكافحة الإغراق يمكن أن يؤدي أيضا إلى وضع يشبه ما يعرف بـ معضلة السجين؛ أي أن تطبيق رسوم مكافحة الإغراق يخلق سيناريو تضطر فيه البلدان إلى حماية صناعاتها من منافسة الواردات. ومع ذلك، إذا اعتمدت جميع البلدان تدابير حمائية مماثلة، فقد يكون التأثير العام أكثر ضرراً، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات التجارة بالنسبة لجميع المعنيين. ولنأخذ فيتنام والصين كمثال على ذلك، فقد برزت فيتنام كلاعب رئيسي في قطاع تصنيع الإلكترونيات، حيث تعتمد بشكل كبير على المكونات المستوردة من الصين لتجميع السلع النهائية. وتستورد فيتنام كمية كبيرة من المكونات والآلات الإلكترونية من الصين لتسهيل عمليات التصنيع هذه، ويمكّن هذا التدفق من السلع الصينية الوسيطة المصنعين الفيتناميين من تصنيع المنتجات النهائية بكفاءة وبأسعار تنافسية. ثم يجري تصدير هذه الإلكترونيات المجمعة إلى الأسواق في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت فيتنام أحد أكبر موردي الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية على مستوى العالم. ومع ذلك، فإذا فرضت فيتنام رسوم مكافحة الإغراق على هذه المكونات الصينية، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة تكاليف الإنتاج لديها، والتأخير أيضا في عمليات الإنتاج بالنسبة للمصنعين الفيتناميين. وبالتالي، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الحد من قدرة فيتنام على تصدير هذه السلع النهائية، مما يسلط الضوء على وجود تأثير متتابع، حيث يؤثر تقييد الواردات الصينية بشكل مباشر على قدرة فيتنام التصديرية. ![]() الفجوة الإنتاجية تركز التعريفات الجمركية ورسوم مكافحة الإغراق التي تستهدف الصين على توفير الحماية بشكل رئيسي للشركات الأقل إنتاجية، وذات التنافسية الأقل أمام الواردات. وقد تحقق هذه الشركات المحلية مكاسب قصيرة الأجل فيما يتعلق بتحسين الإنتاجية، والتوظيف. ومع ذلك، فإن هذه المكاسب غالبا ما تكون ضئيلة، وليس لها مساهمة كبيرة في الحفاظ على سلامة الاقتصاد المحلي. وتواجه الشركات التي تعتمد على مكونات صينية مستوردة أرخص ثمنا (كما أوضحنا في مثال فيتنام) زيادة في تكاليف الإنتاج، وذلك بسبب رسوم مكافحة الإغراق المفروضة على تلك المكونات. ويؤدي هذا الوضع إلى انخفاض الإنتاجية لدى هذه الشركات لأنها لم تعد قادرة على الوصول إلى هذه المواد أو المكونات التي تحتاجها بأسعار تنافسية. كما تحدّ هذه التكاليف المرتفعة من قدرتها على الابتكار أو الاستثمار في البحث والتطوير، أو توسيع عملياتها، مما يؤدي إلى توسيع الفجوة الإنتاجية بينها وبين المنافسين الصينين، الذين يمكنهم العمل بتكاليف أقل نسبيا. كما أن الأثر العام لهذه الرسوم المتعلقة بمكافحة الإغراق يعد أثرا سلبيا أيضا على العمالة والتوظيف، ففي حين أنه قد توفر الصناعات المحمية فرص عمل لديها، إلا أن فقدان الوظائف في الشركات الأكثر إنتاجية، والتي تعتمد على الاستيراد، يطغى على ذلك الأمر. فعلى سبيل المثال، أدى تطبيق رسوم مكافحة الإغراق في فرنسا إلى خسارة إجمالية تقارب 81 ألف وظيفة في القطاعات الاقتصادية المتضررة، في الفترة من 1999 إلى 2007، وفقا لدراسة أكاديمية مشتركة بين جامعة برمنغهام، وجامعة هونغ كونغ، وكلية لندن للاقتصاد (بالمملكة المتحدة)، وكلية الاقتصاد في جامعة شنغهاي للتمويل والاقتصاد. وتحمل الدراسة عنوان الجيد والسيئ والقبيح: الواردات الصينية وإجراءات الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإغراق وأداء الشركات، ونُشرت في عام 2018. وفي الوقت نفسه، أدت هذه التدابير المتعلقة بمكافحة الإغراق إلى انخفاض في إجمالي الصادرات بلغ حوالي 42 مليار يورو. |
|
|
|
|
|
|
Argaam.com حقوق النشر والتأليف © 2025، أرقام الاستثمارية , جميع الحقوق محفوظة |