|
|
تعدّ الصين 🇨🇳 إحدى أبرز الاقتصادات الصاعدة والنامية في آسيا والعالم؛ وذلك في ضوء ما تحققه من أرقام مذهلة على صعيدَي النمو الاقتصادي والتجارة الدولية. وليس أدَلّ على الوتيرة السريعة للنمو الذي تحققه الصين، من صعودها من المركز السادس في عام 2000 إلى المركز الثاني في عام 2010 على قائمة النواتج المحلية الإجمالية الأعلى في العالم، متجاوزة بذلك اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا. لكن في الشهور الأخيرة، يشهد الاقتصاد الصيني انخفاضا في الأسعار، وسط أزمة عقارية متنامية واحتداد في التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة – المنافس الرئيس للصين. وثمة عجز كبير في التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وعادة ما يُعزى هذا العجز إلى انخفاض قيمة اليوان الصيني. وتشير دراسات عديدة إلى أن تدنّي قيمة اليوان أمام الدولار يُسهم في تعزيز الميزان التجاري الصيني مع الولايات المتحدة. وفي الأسبوع الماضي، كشف البنك المركزي الصيني النقاب عن تدابير شديدة الجرأة إلى حدّ أنها تركت كثيرا من الاقتصاديين والمراقبين في ذهول. وقرر المركزي الصيني خفض معدل الفائدة المعياري، وكذلك خفض قيمة النقد الذي تحتاج البنوك إلى الاحتفاظ به كمخزون احتياطي – في خطوة على طريق تحرير مزيد من مصادر الإقراض. ![]() كما أعلن البنك المركزي الصيني أنه ينظر مسألة خفْض معدل الفائدة المستحقة على الرهون العقارية القائمة بالفعل، فضلاً عن خفض المدفوعات في حال الرهون العقارية الثانوية. البنك المركزي الصيني أعلن أيضا أنه بصدد التفكير في طرح قروض تمويلية بقيمة 500 مليار يوان (ما يعادل حوالي 70 مليار دولار) للوسطاء العقاريين وشركات التأمين، تشجيعاً على شراء أسهم صينية، وذلك في إطار جهود لإنعاش البورصة الصينية المتوعكة. في هذا العدد الأسبوعي من أرقام، نحاول تحليل الدوافع الكامنة وراء سياسة التقشف المالية، التي باتت أولوية ملحّة للصين في محاولة لخفض الدين العام والعجز المالي.
ما الدافع الرئيس الكامن وراء التدابير الاقتصادية والنقدية الثورية في الصين؟ لماذا لا ينبغي الاستهانة بأثر القطاع العقاري على الاقتصاد الصيني؟ ما هي سياسة المعاناة على المدى القصير في سبيل تحقيق المكاسب على المدى البعيد؟
⚠️ مجازفة معدل النمو تخشى الصين جديّاً من الإخفاق في تحقيق معدّل النمو الرسميّ المستهدف عند حوالي 5% لمجمل العام. وثمة مخاوف شديدة حال تراجُع الاقتصاد الصيني من وقوع عدوى دولية، ما سيؤثر بدوره على الاقتصاد الدولي الآخذ في التعافي. يشار هنا إلى أنه في عام 2023 كان نصيب الصين من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حوالي 19%، مقارنة بـ 15% للولايات المتحدة. بدورها، شرعت السلطات المالية الصينية في سياسة توسعيّة لخفض قيمة اليوان؛ إذ يجعل ذلك صادرات البلاد أرخص في مقابل زيادة أسعار الواردات، ما من شأنه تحفيز إجمالي الطلب والإنتاج المحلي. كما تنطوي تلك الخطوة على انخفاض في معدل سعر الصرف إلى أقلّ من قيمته السوقية لبعض الوقت، ما يمكن أن يُسفر عن نموّ على المدى البعيد. لكن هذه السياسة الجديدة تستهدف الحيلولة دون حدوث تراجُع مُنْفلت لقيمة العملة. التدابير الجديدة تتضمن كذلك خفضا في معدلات الفائدة، بهدف تشجيع الشركات على اقتراض الأموال من أجل التوسع في الأعمال الاستثمارية، كشراء معدات جديدة وإجراء عمليات تحديث للمصانع وتوظيف عُمال جُدد. على النقيض من ذلك، تكون الحال مع معدلات الفائدة المرتفعة، والتي يمكن أن تحدّ من مثل هذا الاقتراض من جانب المستهلكين والشركات، ما يؤثر بدوره على النمو الاقتصادي.
🦏 خطر "الكركدن الرمادي" القطاع العقاري في الصين لا يزال يمثل أكبر مشاكل البلاد الاقتصادية، والناجمة بالأساس عن تدابير حكومية قديمة كانت تضع قيودا على الاقتراض للمطورين العقاريين الذين لا يجدون الأموال. المشكلة أيضا ناجمة عن الانهيار الدراماتيكي في 2021 الذي شهدته مجموعة إيفرغراند، ثاني أكبر شركات التطوير العقاري في الصين. وإذا وضعنا في الاعتبار نسبة ما يسهم به القطاع العقاري في الاقتصاد الصيني -بما في ذلك 15% استثمارات في أصول ثابتة، 20% قروض، 15% أعمال في مناطق حضرية، و16.4% من الناتج المحلي الإجمالي – فإن أثر هذا القطاع لا يُستهان به. وليس أدلّ على الأهمية الاقتصادية للقطاع العقاري الصيني من ارتباطه بأكثر من ثلث الإيرادات المالية المحلية عبر رسوم الانتقالات البرية. هذا الأثر الكبير للقطاع العقاري الصيني، كان دافعاً وراء انطلاق كثير من الدراسات التي قارنت التوسع السريع للسوق العقاري الصيني بـ خطر الكركدن الرمادي (وهو اسم كتاب لمحللة السياسات مشيل ووكر). التدابير الجديدة التي اتخذها البنك المركزي الصيني، والتي تتضمن خفضاً في معدلات الفائدة على الرهون العقارية القائمة بالفعل بمقدار نصف نقطة مئوية، تستهدف مزيدا من الانخفاض في أسعار المنازل، فضلا عن إعفاء عدد هائل من المنازل التي لا تزال تحت الإنشاء، وذلك من أجل استعادة الثقة في السوق. مؤسسة باركليز للاستثمار والخدمات المالية ترى أن الأزمة العقارية الصينية منذ 2021 تسببت في إهدار نحو 18 تريليون دولار من ثروات الأسر المعيشية، بما يعادل حوالي 60 ألف دولار لكل أسرة.
💡 سياسة التقشف المالية
معاناة قصيرة المدى في سبيل تحقيق مكاسب بعيدة المدى تتبع الصين سياسة تقشف مالية، وتقوم هذه السياسة بالأساس على فكرة شراء مكاسب بعيدة المدى في مقابل معاناة قصيرة المدى. وتتأتى المعاناة من المضاعفات السلبية العديدة لانخفاض الإنفاق في مقابل ارتفاع الضرائب. فيما تتحقق المكاسب من انخفاض سعر الفائدة الحقيقي عالميا في مقابل انخفاض الضرائب التشويهية. وبدلا من الضرائب التصاعدية على الدخل، أخذت الصين تعتمد على الضرائب التنازلية كبديل. وهذا يتطلب من الموظفين وأصحاب العمل على السواء المساهمة بدرجة كبيرة في صناديق التأمين الاجتماعي المتنوعة، بما في ذلك صناديق المعاشات. ويُعزى الانخفاض في الإنفاق الحكومي الصيني إلى إجمالي نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي في البلاد. وقد زادت هذه النسبة إلى أربعة أضعافها منذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي. واليوم، تتجاوز قيمة هذه النسبة 47.5 تريليون دولار، بما قد يؤشر إلى أن الصين أخيراً تجاوزت الولايات المتحدة على صعيد نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي.
وارتفعت نسبة الديون المستحقة إجمالا بمقدار 9.8% بنهاية عام 2023 مقارنة بـ 8.7 في العام السابق، وبمقدار 8.1% بنهاية الرُبعَين السنويَين الأول والثاني على التوالي. بدوره، أصدر صندوق النقد الدولي تحذيرا بشأن مشكلة الدين الصيني، قائلا إنه بلغ حدا غير معتاد.
⚔️
المنافسة الجيوسياسية على طريقها لتجديد سياساتها المالية في الداخل، تضع الصين نُصب عينها عددا من العوامل الجيوسياسية في أنحاء مختلفة من العالم بهدف تعزيز عوامل الجذب الاقتصادي لديها. في غضون ذلك، تواجه الصين معارضة متنامية من جانب منافستها التجارية القوية – الولايات المتحدة. وفي عام 2019، صنّفت وزارة الخزانة الأمريكية، الصين دولة "متلاعبة بالعملة"، وذلك بعد أن ترك البنك المركزي الصيني قيمة اليوان تنخفض. وحددت وزارة الخزانة الأمريكية ثلاثة معايير وراء هذا التصنيف: ● التدخل الفاعل في أسواق العملة ● وامتلاك فوائض تجارية ضخمة مع الولايات المتحدة ● وتحقيق فوائض ضخمة في ميزان المعاملات الجارية. من جهته، يقول البنك المركزي الصيني إنه انتهج سياسة خفض قيمة اليوان في ظل تدابير تجارية حمائية وأحادية الجانب، بالإضافة إلى توقعات تتعلق بالتعريفات الجمركية على الصين. لكن من مصلحة الصين التجارية كذلك أن تعزّز علاقاتها السياسية مع أطراف اقتصادية مختلفة، لا سيما في الشرق الأوسط والخليج العربي. ومرة أخرى، تحاول الصين أن تتفوق على منافسها الأمريكي، عبر اتهامه بالنفاق السياسي، على سبيل المثال. ومن وجهة النظر الصينية، فإن الأمريكيين يقولون ما لا يفعلون، أو يتبعون معايير مزدوجة، لا سيما فيما يتعلق بموقفهم من الحرب في أوكرانيا وموقفهم في المقابل من الحرب في غزة. إنها السياسة باختصار، تقودها المصالح لا الأيديولوجيا أو القيم. وعلى طريق الاستعداد للمنافسة الدولية والجيوسياسية، دشنت الصين في السنوات الأخيرة العديد من مناطق التجارة الخاصة بمختلف مناطق العالم. هذه المناطق التجارية يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع رئيسة: ● مناطق إيداع جمركي (لتطوير الصناعات واللوجستيات الموجّهة للتصدير) ● مناطق تجهيز الصادرات (التجارة الخارجية) ● مناطق التعاون الاقتصادي الحدودية (دُشّنت بهدف تعزيز الصادرات والواردات مع دول الجوار). ![]() |
|
|
|
|
|
|
Argaam.com حقوق النشر والتأليف © 2024، أرقام الاستثمارية , جميع الحقوق محفوظة |